فصل: باب حد السكر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل عن رجل قال لرجل‏:‏ أنت فاسق شارب الخمر، ومنعه من أجرة ملكه الذي يملك انتفاعه شرعًا‏.‏

/فأجاب‏:‏

إذا كان المقذوف محصنًا وجب على القاذف حد القذف إذا طلبه المقذوف، وأما شتمه بغير ذلك إذا كان كاذبًا فعليه أن يعزر على ذلك‏.‏ وأما ضربه وحبسه إذا كان ظالمًا، فإنه يفعل به كما فعل، وما عطله عليه من المنفعة ضمنه‏.‏

 وسئل ـ رَحِمهُ اللّه تعالى ـ عن رجل قذف رجلاً، وقال له‏:‏ أنت علق، ولد زنا، فما الذي يجب عليه‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا قذفه بالزنا أو اللواط كقوله‏:‏ أنت علق، وكان ذلك الرجل حرًا مسلمًا لم يشتهر عنه ذلك، فعليه حد القذف إذا طلبه المقذوف وهو ثمانون جلدة إن كان القاذف حرًا، وأربعون إن كان رقيقًا عند الأئمة الأربعة‏.‏

/ باب حد السكر

 قال شيخ الإسلام ـ رضي اللّه عنه‏:‏

أما الأشربة المسكرة، فمذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام‏.‏ وهذا مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، واختيار طائفة من المشايخ ـ مثل أبي الليث السمرقندي، وغيره ـ وهذا قول الأوزاعي وأصحابه، والليث بن سعد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود بن على وأصحابه وأبي ثور وأصحابه، وابن جرير الطبري وأصحابه ـ وغير هؤلاء من علماء المسلمين وأئمة الدين‏.‏

وذهب طائفة من العلماء من أهل الكوفة كالنخعي والشعبي وأبي حنيفة وشريك وغيرهم إلى أن ما أسكر من غير الشجرتين ـ النخل والعنب ـ كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل، ولبن الخيل وغير ذلك، فإنما يحرم /منه القدر الذي يسكر‏.‏ وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم‏.‏ وأما عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر يحرم قليله وكثيره بإجماع المسلمين‏.‏

وأصحاب القول الثاني قالوا‏:‏ لا يسمى خمرًا إلا ما كان من العنب‏.‏ وقالوا‏:‏ إن نبيذ التمر والزبيب إذا كان نيا مسكرًا حرِّم قليله وكثيره ولا يسمي خمرًا، فإن طبخ أدني طبخ حل‏.‏ وأما عصير العنب إذا طبخ وهو مسكر لم يحل، إلا أن يذهب ثلثاه، ويبقي ثلثه‏.‏ فأما بعد أن يصير خمرًا فلا يحل وإن طبخ إذا كان مسكرًا بلا نزاع‏.‏

والقول الأول الذي عليه جمهور علماء المسلمين هو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسـنة والاعتبار، فـإن الله ـ تعالى ـ قـال في كتابـه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏ْ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏:‏91‏]‏‏.‏

واسم الخمر في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره، ولا يختص بالمسكر من العنب، فإنه قد ثبت بالنقول الصحيحة أن الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية وكان تحريمها بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، لم يكن من عصير العنب شيء، فإن المدينة ليس فيها /شجر عنب، وإنما كانت خمرهم من التمر‏.‏ فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بل وكسروا أوعيتها، وشقوا ظروفها، وكانوا يسمونها خمرًا‏.‏ فعلم أن اسم الخمر في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب‏.‏

فروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما منها شراب العنب‏.‏ وفي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ إن الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر‏.‏ وفي لفظ لمسلم‏:‏ لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب إلا من تمر وبسر‏.‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ وحرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامة خمرنا البسر والتمر‏.‏ وفي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فريخ زهو وتمر فجاءهم آتٍ، فقال‏:‏ إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة‏:‏ يا أنس، قم إلى هذه الجرار فَأَهْرِقْهَا، فأهرقتها‏.‏

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ‏:‏ أن الخمر يكون من الحنطة والشعير، كما يكون من العنب، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ قال على منبر النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة‏:‏ من العنب، والتمر، /والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل‏.‏ وروى أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا‏)‏، زاد أبوداود‏:‏ ‏(‏وأنا أنهي عن كل مسكر‏)‏‏.‏

وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل مسكر خمر، وهو حرام، كما في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏، وفي الصحيحين ـ عن أبي موسي الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن‏:‏ البتع، وهو من العسل ينبذ حتي يشتد قال‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتيمه فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلاً من حبشان، وحبشان من اليمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأراضيهم من الذرة يقال له‏:‏ المزر، فقال‏:‏ ‏(‏أمسكر هو‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يارسول الله، وما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏‏.‏ وفي رواية له‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر /حرام‏)‏‏.‏ وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏)‏ رواه ابن ماجه، والدارقطني، وصححه، وقد روي أهل السنن مثله من حديث جابر ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده‏.‏ والأحاديث كثيرة صحيحة في هذا الباب‏.‏

ولكن عذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم، وسمعوا أن من الصحابة من شرب النبيذ، وبلغتهم في ذلك آثار، فظنوا أن الذي شربوه كان مسكرًا، وإنما كان الذي تنازع فيه الصحابة هو ما نبذ في الأوعية الصلبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الانتباذ في الدباء، وهو القرع، وفي الحنتم وهو ما يصنع من التراب من الفخار، ونهي عن النقير وهو الخشب الذي ينقر، ونهي عن المزفت، وهو الظرف المزفت، وأمرهم أن ينتبذوا في الظروف الموكاة، وهو أن ينقع التمر أو الزبيب في الماء حتي يحلو، فيشرب حلوًا قبل أن يشتد، فهذا حلال باتفاق المسلمين‏.‏ ونهاهم أن ينتبذوا هذا النبيذ الحلال في تلك الأوعية؛ لأن الشدة تدب في الشراب شيئًا فشيئًا، فيشربه المسلم وهو لا يدري أنه قد اشتد، فيكون قد شرب محرمًا، وأمرهم أن ينتبذوا في الظرف الذي يربطون فمه؛ لأنه إن اشتد الشراب انشق الظرف فلا يشربون مسكرًا‏.‏

والنهي عن نبيذ الأوعية القوية فيه أحاديث كثيرة مستفيضة‏.‏ ثم روي عنه إباحة ذلك، كما في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب، قال‏:‏ قال /رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرًا‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفًا لا يحل شيئًا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام‏)‏، فمن الصحابة والتابعين من لم يثبت عنده النسخ فأخذ بالأحاديث الأول‏.‏ ومنهم من اعتقد صحة النسخ فأباح الانتباذ في كل وعاء، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي‏.‏ والنهي عن بعض الأوعية قول مالك‏.‏ وعن أحمد روايتان‏.‏

فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر، فقال طائفة منهم ـ كالشافعي، والنخعي، وأبي حنيفة، وشريك، وابن أبي ليلي، وغيرهم ـ يحل ذلك، كما تقدم‏.‏ وهم في ذلك مجتهدون، قاصدون للحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏

وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة، وهذا هو الثابت عن الصحابة، وعليه دل القياس الجلي؛ فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏ْ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏، فإن المفسدة التي لأجلها حرم الله ـ سبحانه وتعالى ـ الخمر، هي أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء‏.‏ وهذا أمر تشترك فيه جميع المسكرات، لا فرق في ذلك بين مسكر ومسكر، /والله ـ سبحانه وتعالى ـ حرم القليل؛ لأنه يدعو إلى الكثير، وهذا موجود في جميع المسكرات‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن الخمر والميسر هل ‏{‏فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}ْ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، وما هي المنافع‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذه الآية أول ما نزلت في الخمر، فإنهم سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية، ولم يحرمها، فأخبرهم أن فيها إثمًا وهو ما يحصل بها من ترك المأمور وفعل المحظور، وفيها منفعة وهو ما يحصل من اللذة، ومنفعة البدن، والتجارة فيها، فكان من الناس من لم يشربها، ومنهم من شرب، ثم بعد هذا شرب قوم الخمر فقاموا يصلون وهم سكارى، فخلطوا في القراءة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ

تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، فنهاهم عن شربها قرب الصلاة، فكان منهم من تركها‏.‏ ثم بعد ذلك أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏‏.‏ فحرمها الله في هذه الآية من وجوه متعددة، فقالوا‏:‏ انتهينا‏.‏ انتهينا‏.‏ ومضي حينئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فكسرت الدنان والظروف، ولعن عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وآكل ثمنها‏.‏